كل منا مر بتجارب موجعة في حياته.. كل منا ذاق شيئا من الألم..ألم الفشل.. ألم الضيق.. ألم الفقد.. ألم الفراق.. آلام عديدة لم تخلو منها حيواتنا.. ولكن من منا عرف الألم حقا؟
أنا كاتب هذا المقال
كغيري من البشر تذوقت الألم قبلا.. عرفت منه أشكالا عديدة.. دعني أشاركك شيئا منها
عرفت ألم الفقد لحب
حقيقي عشت كل لحظة منه على مدار سنوات خمس.. وتمنيت استمراره كما لم أتمنى شيئا من
قبله.. وخلف فقده دمارا هائلا في حياتي
عرفت ألم من نوع
آخر..
أنا، كاتب المقال
طبيب.. وبحكم عملي استقبل العديد من حالات الحوادث يوميا.. كنت دوما أرى المرضى يصارعون
الموت.. كنت حاضرا في كثير من المواقف التي يتقلب فيها الإنسان بين الحياة والموت أيهما
يتلقفه.. حرفيا
صراعات شهدتها يتجاذب
فيه ملائكة الرحمة من الطاقم الطبي من جهة وملك الموت من الجهة الأخرى أحد الضحايا..
فتارة يغلبهم وتارة يغلبونه.. لم تؤثر في هذه المشاهد أبدا..
كنت أفقد من مرضاي
من أفقد ولا اتألم.. يموت من يموت وجسدي كله ملطخ بدمائه ولا اشعر بشيء.. حقا
هو ليس أكثر من مريض
آخر جاء في حالة لا تسمح باستمراره على قيد الحياة.. موته كان حتميا
وفي وسط مئات الحالات
و مئات من تم إنقاذهم وعشرات من رحلوا.. أتذكر حادثتين اذاقوني من الألم مالم اذقه
مع من قبلهما او بعدهما.. سوف اشاركك بأخبارهما واحذرك انها ستكون موجعة
فأما الأولى..
فكانت لطفل في السابعة
من عمره دخل به الأبوين الشابين مهرولين إلى قسم الطواريء بذلك المستشفى الكبير وقد
تجردت منهما كل المشاعر إلا مشاعر الصدمة والفزع؛؛
طفل في السابعة يرقد..
في شحوب وذبول.. ووجهه الملائكي هادئا بسيطا.. وشحوبه الشديد يشير لوجود نزيف داخل
البطن مع بعض آثار لدماء كانت تسيل من اذنه اليمنى مشيرة إلى وجود كسر بقاع الجمجمة
في الأغلب...
طفل فيه من كل علامات
جمال وبراءة الأطفال ورقتهم وضعفهم الذي ترق له كل قلوب البشر وإن لم تعرفهم.. فيه
كل شيء من علامات الأطفال إلا.. إلا علامات الحياة.. كان يرقد رقدته الأخيرة
وأما الثانية..
كانت لشاب في العشرين
جاء قبيل الفجر إثر حادث دراجة نارية وكان قلبه متوقفا.. هرعنا جميعا لاسعافه واستجاب
لمحاولات الانعاش القلبي الرئوي بالفعل وعاد قلبه للعمل مرة أخرى.. وليته لم يعد
كان الشاب يعاني
من إصابة عنيفة بالمخ لم يكن لينجو منها..كل هذا كان عاديا حتى أتت
دخلت سيدة من القرويين
البسطاء في منتصف الأربعينات من عمرها.. لا أعرف كلمات تصف ما كان يعتري وجهها.. من
منظرها ووجومها وقلبها المكلوم تعرف أنها أمًا
هي أم الشاب الذي
يلفظ أنفاسه الأخيرة جاءت تودعه وداعهما الأخير..
حتما لم تكن تشعر
بالمكان ولا الزمان.. حتما لم تكن تشعر بشيء سوى بموت جزء من قلبها أمام عينها.. حتما
لم تر أيا منا نحن الأطباء وأصدقاء الشاب.. حتما لم تكن في واقعنا.. كانت في عالم لا
يوجد به سواها وفلذة كبدها اللذي يحتضر..
انتظر..ليس هنا مكمن
الألم بعد.. فأما ما اصابني في قلبي مباشرة كطعنة رمح نافذة فكان كلماتها وهي "تناجيه"..
نعم.. ذلك لم يكن
حديثا.. بل كان مناجاة.. نفس تناجي جزءا منها يتأهب لرحلته الأخيرة بعيدا عنها؛؛
لازلت أذكر كل كلمة
رغم انقضاء أكثر من العام والنصف على هذه الواقعة..
بلا بكاء.. بدون
نحيب.. في هدوء ينزف وجعا؛ وفي سكينة ظاهرة تخفي ما يعتصر قلبها من لوعة.. قالت:
"ابني.. اني عارفة انك مش راجع.. عارفة انك روحت مني خلاص.. اني عارفة انك بتموت..
آآآآآآه يا ولدي.. ملحقتش تفرح يا ولدي.. فرحك الخميس الجاي.. فرحك الخميس الجاي يا
ولدي"
كانت كل كلمة تقطر
دما.. كانت كل كلمة تطعني في قلبي.. كانت كل كلمة توجعني وجعا هائلا لا يرتقي لقطرة
في بحر أوجاع هذه الأم
يومها كنت على وشك
البكاء من فرط التأثر بصدق وقوة وشدة الألم في كلماتها.. وبكاء من مثلي لو تعلم شيئا
عظيما
عندها كنت أظن اني
عرفت الألم حقا
عندها كنت أظن اني
أعلم ما تعنيه كلمة" وجع"
لم اتألم يوما لوفاة
قريب او صاحب او حتى ايا من مرضاي الآخرين.. إلا أني عندها ذقت طعم الألم..
إلا ان قصة الألم
لا تنتهي هنا؛ فقد شاءت الأقدار لي أنا - كاتب المقال- معرفة الألم حقا وصدقا.. ومعايشته
والانغماس فيه بما يفوق قدرتي على الاحتمال..
فالألم ان كنت تعرفه
حق المعرفة فستعرف حتما أن له سمات.. سمات إن أدركتها في قلبك تستطع أن تقول انك تجرعت
الألم حقا وصدقا
أنت لم تعرف الألم
حقا حتى تعي بكل أجزاء روحك معنى "الوجع بيقتلني كل ثانية".. "الألم
بيعصر قلبي وبيسحبني من جوايا".. "دلوقت بس عرفت يعني ايه معنى وجع"
نعم انت لم تعرف
الألم حقا لأنك مررت بهذه العبارات مرورا عاديا مثل مرورك بباقي كلمات المقال؛؛ هنيئا
لك.. ادع الله ألا يأتي عليك يوما وتشعر بمعاني تلك الكلمات في وجدانك.
وأما انت يا من شعرت
بكل حرف منها يخترق كيانك ويؤلم روحك مثلما.. نعم.. مثلما يفعل الألم، فلا شيء يوازيه
ليصفه سوى نفسه.. فأما أنت - فمثلي- لا أجد لك دواءا فليس في الطب علاجا لكل داء
ومن سمات الألم انه
ما ان يتملكك حتى يرفض أن يغادرك.. أبدا ما حييت
نعم ستقول لي الزمن
كفيل بتخفيف الألم.. سأجيبك بأنك مصيب ولكن هنا تكمن المكيدة ويتجلى دهاء الألم وتفرده
في إلصاق العذاب أبدا بمن يتملكه..
فهو ينسحب منك شيئا
فشيئا.. إلا انه يترك ندوبا في روحك.. ندوبا لا تزول وإن زال الألم.. ندوبا لا تراها
العين ولكن يراها صاحبها في روحه صباح مساء.. ندوبا ما ان تراها حتى.. حتى تحيي فيك
ما ظننت أنه قد مات من الألم.. بكل تفاصيله واوجاعه.. بكل عذابات الروح والقلب والنفس..
تكون بابا يسير بك إلى كل دروب المعاناة و تحيي فيك كل ألوان العذاب.. أصدقني القول؛
أليس الألم ماكرا حقا؟
نعم هو لن يتركك..
ولن يتركك
كيف أصف لك ما يسري
في جسدي من آلام لا تصفها كلمات هينة ك شديدة.. او مبرحة
كيف انقل لك ما ينخر
عظامي من أوجاع تقتلني بلا موت.. وتتركني بلا حياة؟
كلا لن أخبرك..
لا استطيع على أية حال.. ولن تشعر بما اشعر به مهما كانت قدرتي على الوصف.. فأنت
لم تمر بتلك الفاجعة معي فهذه هي الأخرى من سمات الألم.. انه شديد الفردية.. شديد
الخصوصية.. شديد التباين في مهاجمته للأشخاص.. فهو يضربك حيثما يألمك.. وما يؤلمك
ليس بالضرورة يؤلم غيرك..
نعم هو بهذه القسوة.. هو بهذا العنف.. هو بتلك القوة؛ سوف يأتيك من
حيث لا تقدر على دفعه.. ويضربك بلا رحمة أو هوادة في أكثر المناطق إيلاما لك.. هو
ليس بشيطان.. فحتى الشياطين تدرك أن هناك رحمة
اعلم انه ما ان يتملكك فلن يتركك.. وأنه لن يتركك